فضفضة ..

منذ صغري , كنت أعيش في عالم من خيالي  , عالمٌُُ سحري جميل . كأي طفل في مثل عمري . كانت أحلامي بسيطة , أحلق بها عالياًًَ . إنها ملكي أنا , ليس لأحد أن يحرمني منها أو أن يأخذها بعيداً عني .

كبرت , وكبرت أحلامي , وأصبح عالمي الخيالي يمدني بكل ما أرغب به , وما لم أستطع تحقيقه , فتجدني مرة طبيباً ذائع الصيت , الكل يعرفني , والكل يحبني ويتمنى أن يكون مثلي , ومرة من أصحاب المال والنفوذ , آمر وأنهي , وكل طلباتي مجابة , قصور وطيارات , وأخرى ذلك الفارس الشجاع الذي لا يهاب شيئاً , وسيم, أنيق , كل الفتيات يحلُمن بي , ويقعن في غرامي , وأنا أبحث عن تلك الفتاة التي تسلب عقلي ولبي , تلك التي ليس لها مثال , كاملة الأوصاف (مستحيل).

الحقيقة أن عالم الخيال , عالمٌُ مثالي بكل المقاييس , يختلف كلياً عن الواقع. وهذا الواقع تتبدد على أرضه الأحلام والأمنيات . فعندما كنت أحلم أن أكون طبيباً , كان قدر الله أن أدرس  في كلية اللغة العربية – ليست ببعيدة عن الطب – وأحصل على شهادتي الجامعية في هذا التخصص والحمد لله عل كل حال . أصبح حلمي بعد ذلك أن أكون منارة من منارات التربية والتعليم , وأن أكون الهدية – التي لا يريدها أحد – التي ستعمل ثورة ونقلة في هذا المجال , ومرة أخرى تجري الرياح بما لا تشتهي سفينتي . وكحال الكثير ممن هم في مثل حالي , تبدأ الرحلة الكبيرة (لا أقصد رحلات ابن بطوطة أو كولومبس) ألا وهي رحلة البحث عن وظيفة , أقتات منها , وأحفظ ماء وجهي من مذلة السؤال (إيه والله) . ولا أخفيكم مشقة هذه الرحلة , والكل يعلم بذلك إلا من ولد وبفمه ملعقة من ذهب أو على أقل الأحوال واسطة . مضت الشهور , وأخيراً حصلت على وظيفة – ولله الحمد – بعد الجهد المضني الذي بذلته من البحث والتنقيب وأكيد (حب الأيادي والخشوم) , والصراحة , كان حرياً بي أن أحصل على شهادة (طال عمرك , وتحت أمرك) بدلاً من بكالوريوس في اللغة العربية (  أنفع لي ).

بدأت الأحلام مرة أخرى تلوح عالياً بالأفق , حلم السفر , وامتلاك سيارة خاصة , لحظة … , الصراحة لا أريد أن أسافر أو أحصل على سيارة , أريد فقط أن أتزووووج (ويا سلام على الزواج) . الكل يعلم أن الزواج من أسهل الأمور في وقتنا , ممكن تستيقظ من النوم , (وتتعوذ) من الشيطان وتغسل وجهك وتتزوج . كل ما عليك فعله هو أن تسرق بنكاً أو ترثى مالاً من خالك الذي توفي بالبرازيل . ما علينا , أعود إلى حلمي بالزواج , بدأت أفكر في مرتبي , وكم سأستقطع منه حتى أجمع مهر العروس , وبعد التفكير الطويل , استقطعت كل راتبي , وبدون فائدة . مضت سنة تلوى السنة , ولم أستطع جمع المال الكافي لأكمل نصف ديني . ليس أمامي إلا حلٌُ وحيد , وهو أن أذهب لأحد أعمامي , آسف قصدي لأحد (البنوك) حتى يعطيني مما أعطاه الله . والحقيقة أن البنوك (ما تقصر) تريحك من أمور كثيرة في حياتك , كما يقول العامة (ما لها داعي) , وللمثال لا الحصر , عندك دم زيادة (يمصوه) , عندك فائض من الراحة (يقلقوك) , مظهرك ما يعجبك (يغيروه) . المهم أني حصلت على القرض , وبدأت أعد نفسي لعش الزوجية (القفص الذهبي) , العجيب أنك عندما تنظر لهذا القفص من الخارج يبهرك (حاجة جنان) , لكن عندما تكون في داخل القفص , تعرف ما معنى كلمة قفص , وأسأل من يقومون بتربية الحمام والدجاج .

يقول (الشيخ) شكسبير : ( لا تطلب المرأة من الدنيا سوى زوج , فإذا حصلت عليه طلبت منه كل شيء (مصدقك يا شيخ شكسبير بدون حلفان) , هذا وهو في أيامك فكيف بأيامنا . الأيام الأولى من الزواج رائعة بمعنى الكلمة , تشعر أنك ( شهبندر التجار) وزوجتك (شهر يار) وحكايات ألف ليلة وليلة (صوت وصوره) . وهو شهر وحيد فريد يتيم (ما عنده أحد) . وتأتي بعد ذلك شهور وشهور , اليوم بسنة , ولكن هذه هي سنة الحياة , تصبح حياتك مليئة بالالتزامات والقيود والسلاسل , الزوجة حامل , مواعيد ومستشفيات (ما عليها كلام) , أحلى ما فيها أسمائها فقط , وتكثر الأعذار للخروج من عملك , طال عمرك عندي موعد للأهل , والأهل (تعبانيين) , ومما لا يدعو للشك أن مديرك (يقدر ظروفك) وأكيد أنه يعرض عليك مساعدته (في المشمش) , ويسمعك الكلمات الجميلة مثل (تراك أزعجتنا) و(مو أنت وحدك إلا عنده ظروف) وغيرها الكثير . (معليش) خرجت عن الموضوع (من اللي فيني) , أين كنا !؟ نعم , كنا في قصتي مع الحمل (أقصد حمل زوجتي) وحكايات وروايات , المهم أني رزقت بطفلة جميلة , لطيفة , والحياة بدأت تتغير , كيف ؟ ( كويس إنك سألت) أصبحت مسؤول عن شخصين , لكل واحده منهن احتياجات مختلفة (ما راح أزعجكم بها) , وهذه الاحتياجات جعلتني أكّون صدقات متنوعة , فأصبحت صديقاً للصيدلي والبقال والبائعة بسوق الخضار , ومحلات الملابس والكماليات حتى البنغالي اللي ينظف المسجد .. الخ , والميزة في هذا الأمر أن كل أولئك يبتسمون لك إذا رأوك ولو كان على رؤوسهم الطير , ولسان حالهم (جا صاحبنا اللي ينفعنا).

المشكلة في الزواج أنه يجعلك تتذكر كل شيء إلا نفسك , وتصبح حياتك ملك غيرك ,  ويصبح حديثك عن الماضي وأيام العزوبية حديث ذو شجون , وتكثر جمل التمني , ويا ليتني عملت كذا – وعلى فكرة كلمة (يا ليت) ما تعمر بيت – وفعلت كذا , وتذرف دمعتين (عالماشي) أقصد دموع .

أبشركم أني لا زلت محافظاً على قواي العقلية لحد الآن , وأعيش حياتي بحلوها ومرها , وأكتسب تجارب منوعة , وهذي هي الحياة .

كتابتي لهذه القصة القصيرة مجرد (فضفضة) لا أقل ولا أكثر , ولا تمس للواقع بصلة (على فكرة المدام بجنبي) .

أتمنى أن أكون من خلالها رسمت ابتسامة على شفاهكم (مع إني ما أعرف أرسم)  .

نصيحة : صحيح إن كل واحد منَّا له أحلامه وأمنياته المختلفة , سواءً من جهة العمل أو الزواج أو الحياة عموماً , لكن النجاح في تحقيقها ليس بالأمر السهل والهين . والرجال تُصنع من رحم المعاناة والعمل , وكما يقول الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله- : “الآلام هي التربة التي تنبت فيها بذور الرجولة , وما تفتقت مواهب العظماء إلا وسط ركام المشقات والجهود ” , وهذا ما يجعل للحياة طعماً لذيذاً مغلفاً بالسعادة والانتصار .

شارك التدوينة

المنشورات ذات الصلة

انضم إلى النشرة الإخبارية